بقلم – محمد مقلد
استيقظت شيماء كما تعودت مع ظهور الخيط الأبيض لصباح يوم جديد ، تستعد
لروتين يومها بأداء الصلاة ووضع رغيف من الخبز وقطعة الجبن داخل الكيس الأبيض
لتناول إفطارها قبل بدء يوماً شاقاً من العمل ، تخرج من منزلها دون ضجيج فجميع من
فى المنزل نائمون ولا تريد أن تقلقهم.
شيماء فتاة مرحة ملامحها تعكس براءة طفلة وليست شابة فى الصف الأول لكلية
الهندسة ، زميلاتها يحبونها لخفة ظلها وطيبتها وحب الخير للآخرين ، الابتسامة لا
تفارق وجهها ، ابتسامة تخفى خلف وجهها الطفولى مدى ما تعانيه من مشقة حتى تحقق
أحلامها وتبنى لنفسها مستقبل ينتشل أسرتها من حالة الفقر وضيق الحال ، لقد رضيت
لنفسها أن تعمل باليومية فى جمع العنب حتى توفر ما تحتاجه أسرتها ، وتستطع أن تنفق
على استكمال تعليمها الجامعى.
انطلقت شيماء فى صباح ذلك اليوم كعادتها ، لتسقل السيارة التى تنقلها
وزميلاتها إلى مقر أعمالهن ، كلهن فتيات فى عمر الزهور ، خرجن من منازلهن للبحث عن
لقمة العيش ، كل خطوة تخطوها أى فتاة منهن فى طريق عملها ، وسام تفتخر به وعار فى
وجه الكثير من الشباب المتعطل بفعل تسلط أنفسهم عليهم ، وتكبرهم على نوعية العمل ،
فتيات فى مستهل أعمارهن ، لا يلتفتن إلى نوعية العمل ، وارتضين بطريق الكفاح
والمشقة لتوفير لقمة العيش.
ركبن السيارة ، وبدت كل فتاة منهن تتحدث مع زميلاتها ، أحاديثهن مختلفة ما
بين الشكوى من ضيق الحال والأحلام المنتظرة ، معظمهن يسيطر عليهن الأمل والتفاؤل ،
وإيمانهن أن المستقبل ربما يحمل لهم البشرى بالحياة الأفضل ، أحلام بسيطة لا تتعدى
واقع المجتمع الذى يعشن فيه ، فها هى إحداهن تخبر زميلاتها بأنها تنتظر يوم صرف
راتبها بفارغ الصبر حتى تتمكن من شراء حذاء لشقيقها الأصغر ، وتسديد ما عليهم من
ديون ، وشراء أدوية لوالدتها المريضة ، ولكن من أين لها بكل هذا وهى لا تحصل إلا
على 120 جنيهاً فقط يومياً مع الظروف الاقتصادية الصعبة التى فرضها الواقع علينا
جميعاً خلال الفترة الأخيرة.
وفى مؤخرة السيارة فتاة تحلم باليوم الذى يجمعها فيه الله بابن الحلال
ليكون لها بيت وأطفال مثلها مثل غيرها ، حلمها لا يتعدى أن يكن شريك حياتها شخص
متدين يحافظ عليها ويتقى الله فيها ، تأمل أن يأتى اليوم الذى تنجب فيه ولداً لتسميه
على اسم والدها رحمة الله عليه ، تخبر صديقتها بتلك الأمنية بكلمات حزينة عن فراق
والدها ، كلمات امتزجت بدموع حارقة ترسم أمامها مدى المعاناة التى تواجهها أسرتها
الفقيرة بعد فقدان عائلهم ورب الأسرة.
وسط الكلمات والمشاعر الحزينة لدى بعضهن، كانت الفتيات الثلاث ضحكاتهن تدوى
داخل السيارة ، يتبادلن الأحاديث الطريفة بينهن ليرسمن الابتسامة على وجوههن ، يحاولن
التخفيف عن آلامهن والأحزان التى كست قلوبهن ، والحياة الشاقة التى فرضها عليهن الواقع
الصعب ، ضحكاتهن طفولية تحمل الأمل
والتفاؤل فيما هو قادم رغم كل هذا المتاعب والظروف الحالكة التى تحاصرهن ، اتفقن
فيما بينهن بأن يستغلين أول إجازة لهن للخروج للتنزه فى المدينة لعلهن يخطفن ساعات
قليلة من الحياة تُسعد قلوبهن الصغيرة.
وما بين تلك الأحاسيس المختلطة ، بدأت شيماء تخرج رغيف الخبز وقطعة الجبن
من الكيس لتناول إفطارها فى الطريق قبل الوصول لمقر العمل ، فليس هناك متسع من
الوقت ، فإذا بها تتناول إفطارها فى هدوء ، سيطر عليها الذهن الشارد بعقلها الناضج ليرسم
طريق المستقبل أمامها بأمنيات تحلم بتحقيقها ، لقد أخذها عقلها ليوم التخرج
والالتحاق بالعمل ، وفوزها بلقب مهندسة بعد أن كانت عاملة لجمع العنب ، وهى تحدث
نفسها ، يا ... وقتها بقه أعوض أهلى عن
أيام الحرمان اللى عشوها ، وأبدأ أحقق حلمى وأفيد نفسى ووطنى ، أنا عارفه يا رب
أنك مش هتخذلنى وبمشيئتك وحدك يتحقق حلمى.
ما بين الأحلام والمشاعر المتباينة من حزن وفرح وألم وتفاؤل ، كان لقدر
الله تعالى رأى آخر ، وما هى إلا لحظات حتى قرر سائق النقل الطائش أن ينهى مسيرتهن
فى الحياة ، فدهس سيارتهن بسرعته الجنونية ، حتى بدت أرواحهن الواحدة تلو الأخرى
تصعد لخالقها ، فى مشهد مأسوى اختلطت فيه أحلامهن البسيطة بدمائهن ، وسالت دماء
شيماء لتكسو بقايا رغيف الخبز ، لتخط بدمائها الطاهرة نهاية رحلة تلك الفتاة
المكافحة فى الدنيا لتبدأ أيامها الجميلة بين حور العين بجنة الخلد ، ولما لا
والمشهد يعكس أمامك أرواحهن الذكية وهى تصعد للسماء يرفرفن بأجنحة الفوز برضا الله
تعالى عليهن ، واختيارهن ليكن ضمن شهداء لقمة العيش.
أنت أمام حادث يعيد لذاكرتك المشهد الرائع من فيلم " رابعة العدوية
" وهى تصعد للسماء مع حور العين على نغمات أغنية كوكب الشرق أم كلثوم "
الرضا والنور والصبايا الحور " ، نعم أنهم حور عين ، رضا الله عنهن فاختار
لهن أن يكن من الشهداء ، والله تعالى يقول فى كتابه الكريم.
" وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ " صدق الله العظيم.