google-site-verification: google954c7d63ad8cb616.html
عيون الخريف عيون الخريف
recent

أخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

التخلى والتمكين

 

التخلى والتمكين



بقلم – محمد مقلد


التخلى والتمكين ، نظرية إلاهية لها أبعاد روحانية ، فالله تعالى غيور ، لا يحب أن يتعلق عبده بغيره أو يعشق أى شئ من مخلوقاته أكثر منه ، ومن هنا يظهر دور نظرية التخلى والتمكين ، التخلى الذى يعتمد فى الأساس على  "مرارة الفقد" أو "إساءة الأحوال" أو حتى "الأحداث المؤلمة" ، لتنبيه العبد ورده إلى محبة الله وحده، وعندما ينتبه العبد يأتى التمكين وهو جائزة الله له بعدما أطاع وزرع محبته وحده داخل قلبه دون شريك.

 

ويسخر الله ملائكته للقيام بأدوار محددة مع من أحبهم وخلق أرواحهم طاهرة ، ولكنها تأثرت ببعض الشوائب الدنيوية التى يحاصرهم بها أشرار العالم الخفى ، ممن يجتهدون ويستخدمون كافة أسلحتهم حتى تظل تلك الشوائب عالقة بهم ، تغرق أرواحهم فى بحر المتعة والمظاهر الدنيوية والمادية الزائلة ، لذلك يحتدم الصراع بين الفريقين ، فريق الحق ، وفريق الشيطان.

 

والإنسان صاحب النفس الضعيفة يظل فى ثبات عميق ، مستسلم بكل حواسه لفريق الشيطان ، أما الإنسان الروحانى الذى يحبه الله تعالى ، فتجده بعد حرب طويلة مع الابتلاءات والصدمات التى تمر عليه فى حياته ، يستسلم فى النهاية لنطرية التخلى والتمكين ، وأكثر من تعرضوا لتلك النظرية من بنى البشر هم الرسل والأنبياء وذويهم ، لأن الله تعالى أعدهم لدور ورسالة محددة خلقوا من أجلها.

 

فها هو سيدنا سليمان عليه السلام ، عندما تعلق قلبه بالخيول وعشقه لها أنساه ذكر الله تعالى ، لم يجد طريق إلا بالتخلى عنها ، وأنار قلبه بحب الله وحده ، فكان التمكين بأن سخرالله  له الرياح تسير بأمره ، وسيدنا نوح رغم تعلق قلبه وروحه بنجله الكافر ، تخلى عنه رضوخاً لقوله تعالى ،  أنه من الظالمين وليس من أهلك ، فكافئه الله بأن نجا هو ومن معه من الغرق ، ونفس الشئ مع سيدنا إبراهيم فعلى الرغم من تعلقه بنجله إسماعيل ، جاء أمر الله له بأن يتخلى عنه ويذبحه تقرباً وحباً له تعالى ، وكان التمكين بأن فداه بكبش ، ثم جعل النار التى قام النمرود بإلقائه فيها ، برداً وسلاماً عليه.

 

ووالدة سيدنا موسى عليه السلام ، عندما أمرها الله أن تتخلى عنه بعد ولادته وهو قطعة من روحها ، أطاعت الأمر وألقت بموسى فى مياه البحر ، فكان التمكين بأن أصبحت أقرب الناس له فى قصر فرعون نفسه ، ونظرية " التخلى والتمكين " تجلت بصورة أشمل وأعمق فى قصة سيدنا يوسف عليه السلام ، فقد وصل عشق سيدنا يعقوب لنجله يوسف لدرجة أغضبت الله منه ، ووصل هذا العشق إلى فقدان عينيه بعدما تخلى عن يوسف بأمر من الله تعالى.

 

 كما أن يوسف نفسه ، رضخ لتلك النظرية الإلهية ، بأن تخلى عن أبيه ورفض التواصل معه حتى يأذن الله له ، وكانت مكافأتهما عظيمة بعد مشقة الفقدان ، والتقيا بعد أكثر من ثلاثون عاماً ، ووصل يوسف لمكانة كبيرة فى الدنيا ، يقول تعالى " وَكَذَلكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ " ، وزليخة بعدما هامت على وجهها عشقاً فى يوسف ، ظلت تعانى الألم حتى تخلت عن هذا العشق واتجهت لعشق الله وحده والذى أضاء حبه نور قلبها ، فكانت المكافئة بتمكينها من يوسف بل والزواج منه بعدما كان أملها الوحيد أن تراه فقط.

 

ولم تقتصر نظرية " التخلى والتمكين " على الأنبياء فقط ، فهناك أولياء صالحين تعرضوا لتلك النظرية على رأسهم بالطبع رابعة العدوية وغيرها ، فالله تعالى يصطفى بعض عباده ممن أحبهم ورضى عنهم لأسباب لا يعلمها إلا هو ، ليزرع بداخلهم الخير والسلام ، ويتركهم يواجهون الصعاب والابتلاءات والمواقف والتجارب المريرة ، التى تشكل شخصيتهم قبل خوضهم مرحلة " التخلى والتمكين " لإعدادهم للأدوار والرسائل المكلفين بها فى البيئات المحيطة بهم.

 

تبدأ رحلة هؤلاء المختارون ، بسقوطهم بين أنياب قوى الشر فى العالم الخفى ، لتحاصرهم وتوجه لهم سهام الصفات الذميمة وحب الأنا والكبرياء ، فتسيطر عليهم لفترة من أعمارهم ، حتى يغرقون فى بحر ملذات الدنيا بما تحمله من مظاهر وأمور دنيوية ومادية لا قيمة لها ولا جدوى منها ، ليكتشفوا من خلال تجاربهم القاسية مع الحياة ، أنها شر من صناعة جنود الشيطان ليبعدهم عن الصراط المستقيم ، ويعترفوا بعد مرحلة من العند والتكبر بأن حب الله تعالى والتسليم لقضائه وقدره ، لا يضاهيه أى حب مهما كانت مكانته فى قلوبهم.

 

ومثل هؤلاء لابد لهم أن يعانوا كثيراً خلال مسيرتهم على هذه الأرض من فقد وحرمان وقسوة الحياة عليهم ، وهم غافلون لا يعرفون أن ما يتعرضون له من صنع الله تعالى لهم ، لتجهيزهم للمهمة الأسمى والأكبر ، وعندما يحين الوقت المحدد من الله تعالى لإنقاذهم من براثن قوى الشر، وتنقية أرواحهم ، وتهذيب أنفسهم من الشوائب الدنيوية العالقة بين جنباتهم ، تبدأ القدرة الإلهية فى توجيه الرسائل الكونية لهم ، لإيقاظهم من غفلتهم ،  وإنارة بصيرتهم ، بأنهم أشخاص وقع الاختيار الإلهى عليهم ، لتجهيزهم لعلهم يستطيعون نشر مكارم الأخلاق والمحبة والسلام قدر المستطاع فى البيئة المحيطة بهم.

 

ورحلة التجهيز للقيام بتلك الأدوار ، شاقة للغاية لا يتحملها غيرهم ، حيث يضع الله تعالى فى طريقهم أمور مادية يتعلقون بها لدرجة العشق الجنونى ، ليدخلوا فى آلام ليالى مظلمة تنال من أرواحهم وطاقتهم بصورة مرهقة للغاية ، فيكون التخلى هنا أمر صعب وشاق ، ليقيس خالق الكون مدى قدرتهم على إلقاء كل ذلك خلف ظهورهم والعودة لأنفسهم الطاهرة وأرواحهم النقية ، ونزع كل ما يتعلق بالدنيا مهما كانت قيمته فى قلوبهم ، وتعويضها بحب الله وحده ، والاستسلام لمشيئته ، ووضع كافة أمورهم بين يدية ليقرر وحده مصيرهم.

 

ووقتها يأتى دور الله معهم بمكافأتهم على قوتهم وقدرتهم على التخلى ويعوضهم بما هو خيراً لهم ، وبما يفوق ما يتمناه أى إنسان على وجه الأرض ، فإذا كان التخلى عن شئ لايضرهم أعاده الله لهم فى أبهى صورة ، أما إذا كان هذا الأمر  يهددهم بشر لا محالة ، أبعده عنهم وعوضهم بما هو أفضل منه ،  وكما هو معروف لكل شخص طاقة وقدرة تختلف عن غيره ، لذلك البعض ممن تنهال عليهم الرسائل الكونية لتوقظهم ، يصرون على التمسك بما تعلقوا به فى الدنيا من ماديات ومظاهر دنيوية.

 

ومن هنا تزداد وتيرة الرسائل ويتعرضون لأمور وأحداث غريبة ومخيفة ، قلما تحدث على أرض الواقع ، حتى تحاصرهم الأسئلة الغامضة ، حول ما يحدث لهم ويتعرضون له ، ويبدأ الله تعالى يتدخل بقدرته ليخفف عنهم ويكشف الستار عن هذا الغموض قبل أن تذهب عقولهم ، ويدركون أخيراً أنها رسائل إلاهية واضحة ، تحاول أن تنتشلهم من براثن قوى الشر ، لتضعهم على طريق النور والأمل والسلام الداخلى.

 

ويستسلمون للقدر ، ويبدأون فى تحسس طريق التخلى خطوة خطوة ، حتى يطمأن الله بأنهم تعلموا الدرس وتخلوا عن المظاهر الدنيوية بمختلف أنواعها ، فيكون التمكين هو جائزتهم من رب الكون ، فتتحول حياتهم رأساً على عقب وكأنهم يعيشون فى جنة الله على الأرض ، لا يبالون بما يدور حولهم ، ولا يشعرون حتى بالبشر المحيطين بهم ، وبعضهم لدية ارادة  قوية للغاية ، تجعلهم يتمكنوا من الدخول فى مرحلة التخلى والأشياء المادية التى تعلقوا بها أمام أعينهم ، فالأمر أصبح لا يعنيهم ولا يؤثر فيهم ، وتركوا كل هذه الأمور بين يدى الله  الذى ملأ نوره وحده قلوبهم.     

 

 

 

 

 

عن الكاتب

عيون الخريف

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

عيون الخريف