بقلم – محمد مقلد
أن تضل الطريق فهذا أمر وارد ، ولكن أن تستمر فى المضى قدماً فى نفس الطريق
وأنت تعرف أنه لا يتوافق مع خطواتك ، فهذا فى حد ذاته قمة الضياع ، فمنذ ثلاث أو
أربع سنوات ، كنت أميل للعزلة ، أعيش فى عالم خاص بى ، شبكة علاقات ضيقة للغاية ،
لم أسمح لأحد أن يقترب منى أو يقتحم حياتى مهما كان أسمه وكينونته ، أشعر بالهدوء وراحة البال ، أغرق بين الكلمات
وقراءة الكتب ، تنتابنى السعادة كلما حققت نجاح فى عملى الصحفى.
وفى تلك الفترة لم يكن لى من الأصدقاء المقربين إلا صديق واحد فقط ، وجدت
فيه معنى الصداقة الحقيقية ، من أخلاق حميدة ، وصفاء النية ، قلبه طيب خالى من الحقد
والضغينة ، أفتح له بنك أسرارى وأنا مطمأن أننى أبوح بتلك الأسرار لنفسى ، كل
المحيطين تولد لديهم اعتقاد بأننى مصاب بالكبرياء والغرور ، وهم لا يعرفون الحقيقة
بأنها تلك حياتى التى رسمتها لنفسى وسعيد بها ، ففى النهاية أنا لا أضيف لأحد ولن
يضيف أحد لى.
وكنت فى منتهى السعادة بتلك الحياة المنغلقة ، حتى جاءت غلطة عمرى ، غلطة
ندمت عليها كثيراً ، أخذت من وقتى وجهدى وطاقتى ، وعطلتنى بصورة جعلتنى أتحسر على
ما فات وضيعته من سنوات عمرى فى مهاترات ومعارك مع بشر يقللون من قيمتك كإنسان ، فالقطاع الأكبر
منهم لا يعرف المعنى الحقيقى للإنسانية أو حتى الأخلاق التى أمرنا أن نتمسك بها
ديننا الحنيف.
فقد كان خروجى من عالمى الصغير ،
لعالم الانخراط مع الآخرين والتعامل معهم وفك قيود العزلة والانطواء أكبر خطأ وقعت
فيه طوال حياتى ، فقد شاهدت وعشت مواقف جعلتنى أكثر ندماً ، فهناك من البشر من
استحلوا كل شئ عكس المنطق من أجل أنفسهم ومصالحهم الشخصية فقط ، حتى ولو كان
السبيل لذلك ، فقد آدميتهم وأخلاقهم بل وأنفسهم أيضاً ، بشر تناسوا أن هناك خالق
جاء بهم للدنيا ، ووضع لهم حدود لابد أن يحافظوا عليها ويتمسكوا بها.
وللحقيقة وحتى أكون أمين مع نفسى ، لقد تعايشت مع هؤلاء حتى كادت قدماى
تنزلق معهم ويضيع كل ما غرسته بداخلى والدتى رحمة الله عليها من طباع وأخلاق كانت
سلاحى طوال حياتى ، ولكنى أيقنت أن ذلك هو ابتلاء من الله تعالى لأصل لحقيقة تواجدنا فى هذه الحياة ، واكتشف ذاتى بشكل أكبر
وأعمق ، خضت تجارب عديدة ومتشعبة ، ورغم صعوبتها خرجت منها بدروس أفادتنى كثيراً ،
وجعلتنى أتقرب أكثر وأكثر من حقائق كانت غائبة عنى.
لقد عشت فترة عصيبة ، أشاهد من خلالها على خشبة المسرح ، رواية تعكس جبروت وغلظة قلوب البعض ،
فها هى إمرأه ، لم تستوعب ابتلاء الله لها فى أعز ما تملك ، وبدلاً من تقربها أكثر
من الله تعالى ، أخذت على عاتقها أن تضع الدنيا أمامها وكأنها كنز لابد من نهبه
بكل الطرق الشرعية وغير الشرعية ، من ظلم وفساد وقهر للآخرين ، وفتح الطريق ليحيط
بها مجموعة من النمامين والجواسيس وأصحاب الوجوه المتلونة ، فجميعهم يا سادة
يقدمون فروض الطاعة ليحصلوا على نصيبهم من هذا الكنز ، وعندما ترنحت وأخذ الطريق
يهوى بها لنفق مظلم ، تحول هؤلاء وارتدوا أقنعة مدون عليها العبارة التى تطفوا على
السطح فى مثل هذه المشاهد المكررة " أحنا عبد المأمور ، ربنا ياخده مأمور،
ضيعنا معاه " فعلاً سيدى القارئ شر البلية ما يضحك.
وما يدهشك ، أن الاهتمام الأكبر لمثل هؤلاء هو التمسك بمواقعهم حتى النهاية
لإثبات قوتهم وسلطتهم ، ولا يفرق معهم غضب الله عليهم ، والعقاب الذى ينتظرهم عند
وصولهم إلى محطة الحقيقة الوحيدة فى هذه الدنيا ، المحطة التى يتسلم فيها خالقهم
أمانته ، ويصدمون بأن أرواح أقرب الناس إليهم ممن سبقوهم فى فراق الدنيا ، تعتزلهم
وتبتعد عنهم ، ولا تريد حتى رؤيتهم ، فما اقترفوه أغضب الله وجعلهم منبوذين حتى من
أقرب الناس أليهم فى الآخرة.
وهناك مجموعة من الكومبارس على خشبة المسرح ، منهم رجال خلعوا عباءة
الرجولة الحقيقية ، وارتدوا ملابس جعلتهم يحملون صفات الأنوثة ولكن فى أسوأ صورها
، فهذا كومبارس ، دوره التفنن فى السرقة والتزوير والتلاعب بعقول النساء ولهف
أموالهم تحت غطاء المشاعر المزيفة ، وتظل وأنت تشاهده تنتظر خلال الرواية أن يفيق
من غفوته ويتذكر أنه كما تدين تدان ، ولكن هيهات ، فها هى الستارة تتدلى وهو ما زال
غارق فى مستنقع الحرام ، وكومبارس آخر كل همه البحث عن منصب يجعل له مكانة بين
الناس ليتخلص من النقص الذى أصابه ، ومن أجل هذا يحاول اتقان دوره بالتقرب ممن
يجعلون له قيمة ، ويستخدم فى سبيل ذلك أمور وتصرفات وتنازلات مريبة ، حتى غابت عنه
النخوة والرجولة بشكل كامل ، واتصف بين المحيطين بصفة صعبة لا يتحملها شخص متزن أخلاقياً ، فكان هو
السبب الرئيسى فيما يقال ، ونظرة الطامعين من حوله.
الرواية مكتظة بالكومبارس ، أدوار تم توزيعها بإتقان ، أدوار تقوم على أساس
التجسس والفتن ونقل الكلام والوقيعة بين الناس وتشويه صورة البعض ، فلابد لهم إلا تخطئ أقدامهم طريق الفساد والظلم
وغياب العدالة ، فهى صفات مشينة أصبحت معاول هدم تتحكم فى كل شئ ، فى عالم مصغر ينتشر فيه الظلمة
والمفسدين ، فعندما تغيب المحاسبة لا تسأل عن سبب الوصول لتلك الأوضاع المزرية ، أنها
سلسة من الفساد تغلفها الرشاوى المالية والجنسية والمناصب التى توزع على هذا وذاك
بأسلوب المجاملة ، والغريب أن البطل الحقيقى للرواية مشارك مع جميع الممثلين فى
أدوارهم ، ولكنه فضل أن يكون بطل من خلف الستار لا يظهر فى الصورة.
وفى المشهد قبل الأخير من الرواية ، وضع المخرج أدوار خاصة بالمظلومية
والتمارض ، لكسب تعاطف من حولهم ، وللحقيقة
جميعهم يتقن هذا الدور ، حتى تصل وأن
تشاهد تلك الرواية لإيمان كامل بأنهم بالفعل تعرضوا للقهر والظلم ، فكيف لك وأنت
تشاهد دموعهم تنهمر كالمطر ونحنحة أصواتهم الحزينة وهى تزاحم تلك الدموع الساخنة وما
يغلفها من كلمات التسامح والتدين ، لا تصدق أنهم بالفعل مظلومين ، ولكن لابد أن
تتذكر سيدى القارئ أننى قلت أنه المشهد قبل الأخير ، ولكن المشهد الأخير ليس له
وجود فهو الآن ليس فى يدى ولا يد المخرج نفسه ، ولكنه بيد الله تعالى وحده ، فى يد من يمهل ولا يهمل ، حتى وإن كنت أمتلك القدرة
على وضع النهاية بالطريقة التى تعيد الحق لكل المظلومين ، فلم ولن أستطع أن أخرجها
كما سيخرجها مدبر هذا الكون.
وللحديث بقية إذا كان فى العمر بقية
